خطبة بعنوان: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ” لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح
خطبة بعنوان: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ” لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً.. الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً..الحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونوراً للمؤمنين. . نحمده سبحانه وتعالي خلق كل شيء فقدره تقديراً، عالم السر والخفيات الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وهو بكل شيء خبير..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين .. ” .. نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً “
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. اللهم صلاة وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله وعلي آلك وصحبك والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين ..أما بعد فيا جماعة الإسلام :
حديثنا إليكم اليوم عن كتاب الله الكريم .. كتاب الله فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة رد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي من عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم “:
وسيكون حديثنا بمشيئة الله اليوم حول عدة أمور هامة منها :
- القرآن هو المعجزة الخالدة إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ..
- القرآن كتاب هداية وإرشاد وبشارة..
- القرآن شفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين .
- القرآن بيان للناس وهدي وموعظة للمتقين .
5- القرآن بلاغ للناس ولينذروا به .
6- جزاء حامل القرآن في الدنيا والآخرة .
*- القرآن يرفع أقواماً ويخفض آخرين.
* – القرآن تجارة رابحة مع الله عزوجل .
*جزاء من هجر القرآن وأهمله.
** أولاً : معجزة القرآن.
أخوة الإيمان والإسلام:
القرآن الكريم قد ذكر الكثير من معجزات الأنبياء والرسل كمعجزة “المائدة” و”الناقة” و”ولادة النبي عيسى عليه السلام” ومعجزات النبي “موسى عليه السلام” و النبي “نوح عليه السلام” والنبي “إبراهيم عليه السلام” والكثير من المعجزات التي حصلت للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. والملاحظة المهمَّة في مجال المعجزات أنَّ جميعَ معجزات الأنبياء والرسل عليهم السلام باستثناء معجزة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مقصورة على الحاضرين، حيث كانت تثبت عندهم بالمشاهدة ثمَّ يتمّ إثباتها للغائبين عن طريق النقل. فجميع الرِّسالات السَّماوية السَّابقة على الإسلام كانت محدودةً في الزَّمان والمكان، والآيات القرآنيّة تشيرُ إلى ذلك بوضوح.
ولكن لمَّا كانت رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي الرِّسالة الخاتمة حيث إنَّه لا نبيّ بعده:”وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ”(الأحزاب). ، وبما أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبعثْ لأمَّةٍ محدّدة في مكانٍ محدّد، وزمان معيَّن، أو زمان خاص، وإنّما أُرسل إلى النَّاس كافّةً كما تشيرُ الآيات القرآنيّة إلى شموليَّة دعوته صلى الله عليه وآله وسلم وعمومية نبوّته لجميع البشر:” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (سبأ/28). ، فلا بد أنْ تتبعه البشرية منذ ذلك الوقت إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، لذا كانت الحكمةُ الإلهيّةُ تقتضي تزويد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة خالدة لا تقتصر على زمان خاص ولا على مكانٍ معيّنٍ. فرسالةُ الإسلام أبديَّةٌ عالميةٌ ولا بد أنْ تكونَ معجزته كذلك ..
ولكن القرآن تحدّاهم بصورٍ متعدّدة منها قوله تعالى:”قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا”(الإسراء/88).
و تحدّاهم أنْ يأتوا بعشر سور مثله: “أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”(هود/13).
و تحدّاهم أنْ يأتوا بسورة مثله: ” وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ “(البقرة /23).
هكذا كان جوُّ المعارضة في القرآن، بحيث إنَّه لو فكَّر إنسانٌ فيه فسوف يقطع بأنَّ هذا الكتاب منزلٌ من الله تعالى، فهو حديث باللغة العربيَّة مكوّن من حروف وكلمات تستعمل في الحوار اليومي، إلا أنَّ أحداً لا يستطيع أنْ يأتي بسورة مثله مكوّنة من سطر واحد، لذا كان القرآن الكريم معجزة الرسول الكبرى والخالدة.
وجوه إعجاز القرآن:
أيها الأحبة : وإذا استطلعنا جانباً من وجوه الإعجاز فإن القرآن الكريم يؤكد أنَّه معجزة وأنّه لا يمكن الإتيان بمثله على الإطلاق. وقد كتبت مؤلّفات لهذا الغرض، ولكن نشير إجمالاً إليها:
* بلاغته وفصاحته ..قال تعالي:” قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ “(الزمر /28).
* عدم وجود الاختلاف فيه: قال تعالى: ” أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا”(النساء/82).
* ومن وجوه إعجاز القرآن أيضاً أنّ حامله شخص لم يتلقّ درساً من العلماء، وكانت طريقته في الحديث مثل سائر النَّاس: “فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ”( الأعراف/ 158).
* ومن وجوه إعجاز القرآن إخباره بالغيب، وتنقسم هذه الأخبار إلى قسمين: قسم منها يتعلَّق بالحوادث الماضية التي لم يكن لأحد من النَّاس سبيل إليها: ” ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ”(آل عمران/44). والثاني إخباره بالغيبيات التي ستقع في المستقبل منها قوله تعالى: “غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ”(الروم /2-3). وقوله” لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا”(الفتح/27).
ثانياً ” القرآن كتاب هداية وإرشاد وبشارة..
وهذه القاعدة جاءت ضمن آية كريمة في سورة الإسراء، والتي يقول الله فيها: ” إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا”(الإسراء: 9-10).
أيها الإخوة: هذه الآية اشتملت على جميع ما في القرآن..لأن جميع ما فيه هدى يهدينا إلى خيري الدنيا والآخرة، وأول ذلك وأهمه التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره دعوة لتوحيد الله في ربوبيته وإلوهيته وأسمائه وصفاته “ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ “.(الأنبياء/108).
والتي تجعل المؤمن يزداد يقيناً بعظمة هذا القرآن، وأنه الكتاب الوحيد الذي يصلح لكل زمان ومكان، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ” [الإسراء: 9].
إنها قاعدة عظيمة من أهم وأعظم قواعد التغيير بالقرآن ، لـ يزداد المؤمن يقيناً بعظمة هذا القرآن، وأنه الكتاب الوحيد الذي يصلح لكل زمان ومكان ، وبهذا اليقين وتلك القناعة لـ ننطلق لتغيير ما فسد من واقع الناس.
قال قتادة رحمه الله ـ في بيان معنى هذه القاعدة :”إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما دائكم فالذنوب والخطايا وأما دواؤكم فالاستغفار”( الدر المنثور (5/245).).
وهذا التفسير من هذا الإمام الجليل إشارة واضحة إلى شموله إلى علاج جميع الأدواء، وأن فيه جميع الأدوية، لكن يبقى الشأن في الباحثين عن تلك الأدوية في هذا القرآن العظيم.
**إنه يهدي للتي هي أقوم في ضبط التوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ..
*ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
* ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفراداً وأزواجاً ، وحكومات وشعوباً ، ودولاً وأجناساً ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض .. فيشمل الهدى أقواما وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان ; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق , وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
* ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام”
* ومن هدي القرآن للتي هي أقوم الدعوة للالتزام بما شرعه الله عز وجل والتحذير من الهوى مقتدين في ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه.
* يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور , بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض , والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة .
*ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة , فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
فهذه هي قاعدة القرآن في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل , ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه , والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن , فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره , المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له..
أيها الموقنون بهذا الكتاب العظيم:
هذا كتاب ربنا، يخبرنا فيه أنه يهدي للتي هي أقوم، فأين الباحثون عن هداياته؟ وأين الواردون حياضه؟ وأين الناهلون من معينه؟ وأين المهتدون بتوجيهاته.
**ثالثاُ: شفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين.
أخوة الإيمان والإسلام :” القرآن : هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته .وهذا التعريف للقرآن جامع مانع . فقولنا ” كلام الله ” : خرج به : كلام البشر وغيرهم .وقولنا ” المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم “: خرج به : الذي أنزل على غيره كالإنجيل والتوراة والزبور . وقولنا ” المتعبد بتلاوته “: خرج به الأحاديث القدسية .
وهو نور ويقين ، وهو الحبل المتين ، وهو منهج الصالحين ، فيه أخبار الأولين من الأنبياء والصالحين وكيف أن من عصى أمرهم ذاق بأس الله وكان من الأذلين، وفيه آيات تحكي معجزات الله وقدرته في هذا الكون المتين ، وفيه بيان لأصل هذا الآدمي الذي كان من ماء مهين ، وفيه أحكام العقيدة التي يجب أن ينطوي عليها كل قلب مستكين ، وفيه أحكام الشريعة التي تبين المباح من الحرام وتبين الباطل من الحق المبين ، وفيه بيان المعاد ومصير الآدمي إما إلى نار يخزى فيها فيكون من الصاغرين،وإما إلى جنة ذات جنات وعيون وزروع ومقام أمين . وفيه شفاء للصدور ، وفيه للأعمى تبصرة ونور ، قال الله تعالى :” وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا “( الإسراء / 82).
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآيات :” يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد إنه ” شفاء ورحمة للمؤمنين ” أي : يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله ، وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه ، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة ، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعداً وكفراً والآفة من الكافر لا من القرآن ، قال تعالى :” قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ “( فصلت / 44 ).
وقال الله تعالى : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ “( يونس/57). وقال الله تعالى :” وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت: 44]. والآيات في ذلك كثيرة .وفيه ما لا يستطيع عده جهد العادِّين ، فيجب على كل من أراد السعادتين في هذين الدارين أن يحتكم إليه ويعمل بأمره .
قال قتادة – في قوله :” وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ” : إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه ، ” ولا يزيد الظالمين إلا خساراً “، أي : لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين . ” تفسير ابن كثير ” ( 3 / 60 ) .
*** بيان للناس , وهدى وموعظة للمتقين . .
أيها الأحبة الكرام :” ومن حديث القرآن عن القرآن ما جاء في قوله تعالى في سورة آل عمران :”هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ “[آل عمران:138]. هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي .
والبيان في قوله “هَذَا بَيَانٌ ” هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة . والهدى : بيان طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغيّ .
والموعظة : هى الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين .
فالحاصل أن البيان جنسٌ تحته نوعان : أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى . والثاني : الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة .
هذا ما أجمله العلماء في تفسير البيان والهدى والموعظة . وهو إجمال يحتاج إلى تفصيل وحسن تدبر لآيات الله .
فمن المعلوم أن الناس جميعا يمرون بالحياة الدنيا ولا يقيمون . والأجل الذي كتب لهم إن هو إلا فترة امتحان يُرى فيها أيحسنون أم يسيئون ؟ فترة عمل وجد وإخلاص وكَدّ ” مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا “[فصلت:46].
ومن تدبر إحسان المحسن وإساءة المسيء وجد أثر ذلك في الدنيا عدلاً وبرًّا وفساداً وظلمًا . يحسن من يحسن في الدنيا ويسيء من يسيء ، فينعم الناس بإصلاح من يحسن ، ويساءون بإساءة من يسيء ” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وهل عاقبة الإساءة إلا الخسران “. وحكمة الخلق تأبى أن يستوي عند الله محسن ومسيء أو متّقٍ وفاجر وحكمة الخلق تقتضي أن يعود الناس إلى خالقهم وأن يجدوا ما عملوه في دنياهم حاضراً أمام أعينهم في حساب وجزاء لا مناص منه ول مفر . وإلا كان الخلق عبثاً وباطلاً” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ”(المؤمنون/115ـ 116).
:” وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ”(البقرة /281). وهذا البيان للناس دلالة لهم على ما يجب أن يكونوا عليه , وقد حفظ الله الذكر للأجيال كلها ليكون بيانه هدى لهم وتبصرة :” لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ” (الأنفال/ 42). وليس بعد هذا البيان للناس عذر لمعتذر أو حجةٌ لمنكر أو جاحد . وفي البيان الذي سبق هذه الآية صفات يجب أن تتبع وهى صفات المتقين الذين يرجون رحمة الله وينالون مغفرته ورضوانه وهى صفات لها أثر في تزكية النفس وروابط المجتمع . فالمتقي بتقواه ليس بمعزل عن شئون الحياة وأحوال الناس بل هو عامل على إصلاحها . يكف شره عن غيره ويقدم خيره . فعلى الذين يؤثرون الحياة الدنيا أن يعرفوا سبيل الأمن والسلام فيها .
فإنها لا تأمن إلا بإيمان المؤمن ولا تسلم إلا بتقواه . ويخطئ من ينشد الإصلاح بعيداً عن صلاح الفرد وهو الأصل في تكوين المجتمع .
إن صلاح الإنسان فيه إصلاح لشئون الحياة واستقامتها . فالإنسان الصالح تصلح به الأمور الفاسدة . والإنسان الفاسد تفسد به الأمور الصالحة .
ومن هنا كانت العناية بتربية الإنسان وإعداده هى السبيل لإعداد أمةٍ ناهضة تنشد معالي الأمور وتبعد عن سَفْسافِها .
*** بلاغ للناس كافة للإذعان بوحدانية الله ..
قال تعالي : “هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (إبراهيم /52).
فهذا القرآن بلاغ للناس ، أبلغ الله به إليهم في الحجة عليهم ، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره .. عن قتادة في قوله: “إن الله عزيز ذو انتقام” قال: عزيز والله في أمره، يملي وكيده متين، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة. “ولينذروا به” يقول : و لينذروا عقاب الله ، ويحذروا به نقماته ، أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم “وليعلموا أنما هو إله واحد” يقول : وليعلموا بما احتج به عليهم من الحجج فيما أنما هو إله واحد ، لا آلهة شتى ، كما يقوله المشركون بالله ، وأن لا إله إلا هو الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، الذي سخر لهم الشمس والقمر ، والليل والنهار ، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم ، وسخر لهم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لهم الأنهار “وليذكر أولو الألباب” يقول : وليتذكر فيتعظ بما احتج اله به عليه من حججه التي في القرآن ، فينزجر عن أن يجعل منه آلهاً غيره ، ويشرك في عبادته شيئاً سواه أهل الحجى والعقول ، فإنهم أهل الاعتبار والادكار ، دون الذين لا عقول لهم ولا أفهام ، فإنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً .
وعن ثوبان قال “جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الظلمة دون الجسر”. وأخرج مسلم أيضاً وغيره من حديث عائشة. قالت “أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية “يوم تبدل الأرض غير الأرض” قلت: أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط”(مسلم).
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قول الله “يوم تبدل الأرض غير الأرض” قال: “أرض بيضاء، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام، ولم يعمل بها خطيئة”.(الطبراني والحاكم).
“هذا”، أي: هذا القرآن، “بلاغ”، أي: تبليغ وعظة، “للناس ولينذروا”، وليخوفوا، “به وليعلموا أنما هو إله واحد”، أي: ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى: ” وليذكر أولو الألباب “، أي: ليتعظ أولو العقول. “هذا “إشارة إلى القرآن أو السورة أو مافية العظة والتذكير .. يقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه :-” لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فإن إبتغينا العزة فى غيره أذلنا الله “.
إن الغاية الأساسية من ذلك البلاغ وهذا الإنذار , هي أن يعلم الناس (أنما هو إله واحد). . فهذه هي قاعدة دين الله التي يقوم عليها منهجه في الحياة .
الإسلام لم يجيء لمجرد تحطيم الأصنام ! ولم تبذل فيه تلك الجهود الموصولة , من موكب الرسل الموصول ; مجرد تحطيم الأصنام من الأحجار والأخشاب !
إنما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الإذعان لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ; وبين الانقياد لغيره في كل هيئة وفي كل صورة . .
إن دين الله ليس بهذا الهزال الذي يتصوره من يزعمون أنفسهم “مسلمين” في مشارق الأرض ومغاربها ! إن دين الله منهج شامل لجزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها . وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه . وإن الشرك بالله لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بإلوهية غيره معه ; ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه . .
** الفرق بين البلاغ والبيان:
ورد في القرآن:” هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ” و” هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ” وورد ” ثم إن علينا بيانه “. فهل هناك فرق بين البيان والبلاغ؟ و الفرق بين البلاغ والبيان فهو أن البلاغ إيصال الرسالة.
قال الجوهري في الصحاح: والإبلاغ الإيصال وكذلك التبليغ والاسم منه البلاغ. انتهى.
وأما البيان فهو الإيضاح والكشف عن المعنى المقصود إظهاره. كذا قال الراغب في المفردات. وقال القرطبي في التفسير: ثم إن علينا بيانه أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين ..أما بعد فيا جماعة الإسلام :وبعد أن تحدثنا عن عظمة القرآن وإعجازه وهدايته وبيانه وبلاغه لابد أن نتحدث عن فضائله وجزاء من عظمه واعتني به وجزاء من هجره وأهمله ..ونتحدث أولاً :
**جزاء حامل القرآن في الدنيا وفي الآخرة :
*يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين :
عن عمر بن الخطاب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:”إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين” (مسلم). وفي رواية الدارمي ” إن الله يرفع بهذا القرآن…” إن رفع الله تعالى لأقوام بالقرآن القرآن الكريم إنما هو بعملهم به بعد تعلمهم إياه وتعليمهم غيره . : يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم. يعني أن الله يرفع بالقرآن أقواما منازل عالية في الدنيا والآخرة، حتى يفوقوا غيرهم ممن هو أشرف منهم نسبا وحسبا، كما قال سبحانه:” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ “(المجادلة:11).
وقد مر بنا تأييد معنى هذا الحديث في تأمير رسول الله من كان معه سورة البقرة رغم حداثة سنه وتأخيره من هو أسن منه وأكثر شرفا لقلة حفظه .
وكان رسول الله يجمع بين الرجلين من شهداء أحد في لحد واحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير إلى أحدهما قدمه إلى لحده ، وهذه سنة في تقديم أصحاب القرآن في كل أمر حسن إن استوت الكفاية وذلك تعظيم لفضل القرآن الكريم . :”ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب “) الحج/32). قال تعالى ” إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “(الحجرات/13).
أما الذين يضعهم الله بالقرآن فهم الذين كفروا به وجحدوا أو كانوا ممن جهل أحكامه وتلاوته وفهمه أو ممن لم يحفظ منه شيئا . ” ومن أبطأ به عمله فلم يسعفه نسبه ” قوله:” ويضع به آخرين” يضع يعني يذل ويخفض، أي: يضع منزلتهم فتكون منزلتهم وضيعة أي دنيئة، وسبب الذلة: الإعراض عن القرآن وتعلمه وفهمه.
قال العلامة صديق حسن خان: وهذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في هذا، ورفع الله بكتابه العظيم جمعاً جماً من الناس الموالي وغيرهم، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، ووفق عصابةً عظيمة منهم لتفسيره، وضبط معانيه ومبانيه، فارتفعت منازلهم، وهكذا. وترك أقوام إياه – أي تركوا القرآن – قال: كالروافض ومن يحذوا حذوهم، ونبذوه وراء ظهورهم وهجروه، فاتضعتْ مراتبهم، وُنسوا كما نسوه.
وورد في الحديث أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: “اقرأ وارتق، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”( الترمذي). فكلما قرأ آية ارتفع منزلة عند الله تبارك وتعالى.
“إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا, وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ”
قد ترتفع بهذا الكتاب إلى أعلى عليين, لذلك احرص على قراءته، احرص على فهمه، احرص على تطبيقه، هو كتاب العمر، الكتاب المقرر .
إذاً:”إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا, وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ”
كل هذا الكلام الآن منصب على أنك: لو قرأت هذا القرآن, وفهمته, وطبقته، أما إذا انطلقت إلى تعليمه، أصبحت عند رسول الله من خير الناس.:”خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ”(البخاري)
لذلك نحن حتى الآن نقول: إذا قرأته أنت، قرأته لنفسك، وفهمته لنفسك، وطبقته في حياتك, سعدت في الدنيا والآخرة، فكيف إذا أسعدت به الآخرين؟ .
وقد وردت جملة من الأحاديث التي توضح فضائله منها :
ما ورد عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:”الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ”[سنن أبي داود]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): “إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ,قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ”[ابن ماجه].وعن عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم):”مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا،لاَ أَقُولُ ألْم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ”( الترمذي).
وعن عُثْمَان بن عفان عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :”خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ”(البخاري).
وعن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ:” اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ” ( مسلم).وعن عَبْد اللهِ بْن مَسْعُودٍقال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) :”مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الْم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ”( الترمذي).
** صاحب القرآن في غبطة .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:”لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ, فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ, وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا, فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ” يعني: إذا كان ممكنًا, أن تغبط أخاك المؤمن على شيء، طبعاً هنا المقصود بالحسد الغبطة، الغبطة الحسد المشروع، والحسد المذموم هو أن تستكثر الخير على أخيك، وأن تتمنى أن يزول عنه، هذا هو الحسد الذي نهى الله عنه, قال تعالى:”قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ”(الفلق الآية: 1-5). ولكن علماء الحديث وجهوا هذه الكلمة في هذا الحديث: على أنها الغبطة، والغبطة إذا رأيت أخاك متعلمًا لكتاب الله, يجب أن تغار منه، يجب أن تغبطه، أن تبارك له هذا التعلُّم, وأن تتمنى أن تكون مثله، هذه غبطة، والغبطة مطلوبة .
أيها الأحبة : ” رجل آتاه الله القرآن، يقرأه قراءةً صحيحة، شيء جميل، إذاً: هو يعلم الناس التجويد، هذا عمل جيد جداً، إنسان آتاه الله معانيه, إذاً: هو يعلم الناس تفسيره، إنسان آتاه الله أن يطبقه، وأن يدعو الناس إلى تطبيقه . فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل هذا الحديث مطلقاً:”رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ” . من أين أُوتيت القرآن, فأنت رابح, قرأته فأنت رابح، حفظته فأنت رابح، جوَّدته فأنت رابح، فهمته فأنت رابح، درَست علومه فأنت رابح، فسَّرته فأنت رابح، طبَّقته فأنت رابح ,استمعت إليه فأنت رابح. “رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ”.
* صاحب القرآن تجارته رابحة :
“إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـارَةً لَّن تَبُورَ “(فاطر/29). الملفت للنظر أنّ كثيراً من الآيات القرآنية الكريمة تشبّه هذا العالم بالمتجر الذي تُجّاره الناس، والمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وبضاعته العمل الصالح، أو الأجر:الجنّة والرحمة والرضا منه تعالى ولو تأمّلنا بشكل جيّد فسوف نرى أنّ هذه التجارة العجيبة مع الله الكريم ليس لها نظير لأنّها تمتاز بالمزايا التالية التي لا تحتويها أيّة تجارة أخرى:
1 ـ إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للبائع تمام رأسماله، ثمّ كان له مشترياً!.
2 ـ إنّ الله تعالى مشتر في حال أنّه غير محتاج ـ إلى شيء تماماً ـ فلديه خزائن كلّ شيء.
3 ـ إنّه تعالى يشتري “المتاع القليل” بالسعر”الباهض ” يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير يا من يعطي الكثير بالقليل .
4 ـ هو تعالى يشتري حتّى البضاعة التافهة (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره).
5 ـ أحياناً يعطي قيمة تعادل سبعمائة ضعف أو أكثر . .
6 ـ علاوة على دفع الثمن العظيم فإنّه أيضاً يضيف إليه من فضله ورحمته “ويزيدهم من فضله””ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنّه غفور شكور”.
**جزاء من هجر القرآن وأهمله :
*من هجر القرآن خرب قلبه وبيته ..
أخوة الإيمان :” القرآن الكريم سبب لعمار القلوب وهدايتها وسبب لعمار البيوت وسعتها وطرد الشياطين منها و الحفظ للبيوت العامرة بقراءته ، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) (مسلم).إذ هو رزق يسوقه الله لصاحبه كما يعطي المال والولد .. ). وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول :” اقرؤوا القرآن ، فإن الله تعالى لا يعذب قلباً وعى القرآن )”(السيوطي ). ومن ترك هذا القرآن وأهمله تعرض لمقت الله في الدنيا وفي الآخرة. ” إنّ البيت إذا قرئ فيه القرآن حضَرَتْهُ الملائكة ، وتنكَّبَت عنه الشياطين ، واتَّسَعَ على أهله ، وكثُر خيره ، وقلّ شرّه ، وإنّ البيت إذا لم يُقرأ فيه القرآن حضرتْهُ الشياطين، وتنكَّبَت عنه الملائكة ، وضاق على أهله ، وقلّ خيرهُ ، وكثُر شرّهُ “(أحمد عن أنس بن مالك).وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ” إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ”( الترمذي)
بيتٌ خربٌ مهجور، تشبيهٌ رائع من النبي عليه الصلاة والسلام، تجد كل ثقافته معلومات حياتية, هكذا حدث، هكذا قال فلان، هكذا قيل، بعيد عن القرآن الكريم، أما إذا كان له وعاء مشحون بالمعلومات الدنيوية، الأسعار، الفُرَص، المناسبات، اللقاءات، أخبار المجتمع، أسعار البيوت، أسعار الأراضي، الأخبار العالمية يتَّبعها تماماً، أما إذا أراد أن يقرأ آيةً واحدة لا يستطيع، هذا بيتٌ خرب، لأنه إذا جاء ملك الموت كل هذه المعلومات لا تعنينا، هذه عملةٌ زائفة ليست رائجة عند الموت، لكن الذي يقرأ القرآن، ويفهمه، ويحفظه, ويفسِّره، ويعمل به, هذه عملة رائجة عند الموت، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) يحذرنا أن هذا الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب .
** من هجر القرآن يتعرض للخزي يوم الموقف العظيم .
إن الإنسان إذا قرأ القرآن، وحفظه في مرحلةٍ من حياته، ثم أهمله، فهذا ذنبٌ عظيم، فعلى الإنسان أن يراجع محفوظاته القرآنية من حين لآخر،وإلا عاتبه الله عزَّ وجل، وحاسبه، وآخذه .
عَنْ أَبِي مُوسَى, قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ, فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا”(البخاري ومسلم ). إذا أهمل الإنسان محفوظاته القرآنية, ربما ضاعت منه، وقع في إثم شديد .
قال تعالي “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” (الفرقان /30).
وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم يعضّ الظالم على يديه: يا ربّ إن قومي الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك اتخذوا هذا القرآن مهجوراً.
قال مجاهد قوله: “اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” قال: يهجُرون فيه بالقول, يقولون: هو سحر.
يهجرون فيه بالقول السيئ في القرآن غير الحقّ. وقالوا فيه غير الحقّ، ألم تر إلى المريض إذا هذي قال غير الحق. وهم “لا يريدون أن يسمعوه, وإن دعوا إلى الله قالوا لا. وقرأ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ قال: ينهون عنه, ويبعدون عنه.. وذلك أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ , وذلك هجرهم إياه.
يا له من يوم عصيب يوم يأتي الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أرض المحشر علي رؤؤس الأشهاد يوم القيامة ممسكاً بكتاب الله في يده ويشير إليه وعلي كل من هجر وأعرض ونأ :” يارب إن فلان من قومي اتخذ هذا القرآن مهجوراً ” فما هو موقفك وما هو قولك وما هو ردك وجوابك ..إنها للحظات تتناثر منها لحوم الوجوه من الخزي والخذلان من شدة هول الموقف العظيم .. نسأل الله السلامة .. ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة .